فصل: من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
سورة العاديات:
أَقْسَمَ اللَّهُ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَقال: {يس وَالقرآن الْحَكِيمِ}.
وَأَقْسَمَ بِحَيَاتِهِ، فَقال: {لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}.
وَأَقْسَمَ بِخَيْلِهِ وَصَهِيلِهَا وَغُبَارِهَا وَقَدْحِ حَوَافِرِهَا الدَّارِّ مِنْ الْحَجَرِ، فَقال: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} الْآيَاتُ الْخَمْسُ.
وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ: {إنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ}.
{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} وَهُوَ الْمَالُ.
وَقَدْ تَبَيَّنَ فِيمَا تَقَدَّمَ حَالُ الْمَالِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالنَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَالْفَائِدَةِ وَالْخَيْبَةِ. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
سورة العاديات:
{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)}
قوله: {والعاديات}: جمعُ (عادِيَة) وهي الجاريَةُ بسُرعةٍ، من العَدْوِ، وهو المَشْيُ بسُرْعةٍ. والياءُ عن واوٍ لكَسْرِ ما قبلها نحو: الغازِيات من الغَزْوِ. يُقال: عَدا يَعْدُوا عَدْوًا، فهو عادٍ وهي عادِيَةٌ، وقد تقدَّمَ هذا في المؤمنين.
قوله: {ضَبْحًا} فيه أوجهٌ. أحدها: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لاسمِ الفاعلِ؛ فإنَّ الضَّبْحَ نوعٌ من السيرِ والعَدْوِ كالضَّبْع. يقال: ضَبَحَ الفَرَسُ وضَبَعَ، إذا عدا بشدةٍ، أَخْذًا مِن الضَّبْع، وهو الذِّرَاع لأنه يَمُدُّه عند العَدْوِ، وكأنَّ الحاءَ بدلٌ من العين. وإلى هذا ذهب أبو عبيدةَ. والمبردُ.
قالا الضَّبْحُ مِنْ إضباعِها في السَّيْرِ.
وقال عنترةُ:
والخيلُ تعلَمُ حين تَضْـ ** ـبَحُ في حِياضِ المَوْتِ ضَبْحًا

الثاني: أنه مصدرٌ في موضعِ الحالِ، أي: ضابحاتٍ، أو ذوي ضَبْح. والضَّبْحُ: صوتٌ يُسْمَعُ مِنْ صدورِ الخيلِ عند العَدْوِ، ليس بصَهيلٍ.
وعن ابن عباس: انه حكاه فقال: أحْ أحْ. ونُقل عنه: أنه لم يَضْبَحْ من الحيوان غيرُ الخيلِ والكَلْبِ والثعلبِ. وهذا يَنْبغي أَنْ لا يَصِحَّ عنه، فإنه رُوي أنه قال: سُئِلْتُ عنها ففَسَّرْتُها بالخيل. وكان علي رضي الله عنه تحت سِقايةِ زمزم فسأله، وذَكَر له ما قلتُ. فدعاني فلمَّا وقفْتُ على رأسِه قال: تُفْتي الناسَ بغيرِ علمٍ، إنَّها لأولُ غزوةٍ في الإِسلام وهي بدرٌ، ولم يكنْ معنا إلاَّ فَرَسان: فرسٌ للمِقْداد، وفرسٌ للزُّبَيْر، والعادياتِ ضَبحًْا: الإِبلُ مِنْ عرفَةَ إلى المزدلفةِ، ومن المزدلفةِ إلى مِنى. إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ قال بعد ذلك: فإنْ صَحَّتِ الروايةُ فقد اسْتُعير الضَّبْحُ للإِبِل، كما اسْتُعير المَشافِرُ والحافِرُ للإِنسان، والشَّفتان للمُهْر. ونَقَل غيرُه أن الضَّبْحَ يكونُ في الإِبلِ والأسْوَدِ من الحَيَّاتِ والبُومِ والصدى والأرنبِ والثعلبِ والقوسِ. وأنشد أبو حنيفةَ في صفةِ قَوْس.
حَنَّانَةٌ مِنْ نَشَمٍ أو تالبِ ** تَضْبَحُ في الكَفِّ ضُباحَ الثعلبِ

وعندي أنَّ هذا مِن الاستعارةِ. ونَقَلَ أهلُ اللغةِ أنَّ أصلَ الضَّبْحِ في الثعلبِ فاسْتُعير للخيلِ، وهو مِنْ ضَبَحَتْه النارُ: أي غَيَّرت لونَه ولم تُبالغْ فيه. والضَّبْحُ لونٌ يُغَيِّرُ إلى السواد قليلًا.
الثالث: من الأوجه: أَنْ يكونَ منصوبًا بفعلٍ مقدرٍ، أي: تَضْبَحُ ضَبْحًا. وهذا الفعلُ حالٌ من {العاديات}.
الرابع: أنَّه منصوبٌ بالعادِيات، وإنْ كان المرادُ به الصوتَ.
قال الزمخشري: كأنَّه قيل: والضَّابحاتِ لأنَّ الضَّبْحَ يكون مع العَدْوِ..
قال الشيخ: وإذا كان الضَّبْحُ مع العَدْوِ فلا يكون معنى. والعادياتِ: والضَّابحاتِ فلا ينبغي أن يُفَسَّرَ به.
قلت: لم يَقُلْ الزمخشري أنه بمعناه، وإنما جعله منصوبًا به؛ لأنه لازمٌ له لا يُفارِقُه فكأنَّه ملفوظٌ به. وقوله: كأنه قيل. تفسيرٌ للتلازُمِ، لا أنه هو هو.
{فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2)}
قوله: {قَدْحًا}: يجوزُ أَنْ يكونَ مصدرًا مؤكِّدًا؛ لأنَّ الإِيراء من القَدْح يقال: قَدَحَ فَأَوْرَى وقَدَح فأَصْلَدَ. ويجوزُ أَنْ يكونَ حالًا فالمعنى: قادحاتٍ، أي: صاكَّاتٍ بحوافِرها ما يُوْرِي النارَ يُقال: (قَدَحْتُ الحجرَ بالحجرِ) أي: صَكَكْتُه به.
وقال الزمخشري: انتصَبَ بما انتصَبَ به ضَبْحًا.. وكان جَوَّزَ في نَصْبِه ثلاثةَ أوجهٍ: النصبَ بإضمارِ فعلٍ، والنصبَ باسمِ الفاعلِ قبلَه، لأنه مُلازِمُه، والنصبَ على الحال. وتُسَمَى تلك النارُ التي تَخْرُج من الحوافرِ نارَ الحُباحِب.
قال:
تَقُدُّ السُّلُوقِيَّ المُضاعَفَ نَسْجُهُ ** وتُوْقِدُ بالصُّفَّاحِ نارَ الحُباحِبِ

{فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3)}
قوله: {فالمغيرات صُبْحًا}: صُبْحًا: ظرفٌ، أي: التي تُغير وقتَ الصبح يقال: أغارَ يُغير إغارةً باغَتَ عَدُوَّه لنَهْبٍ أو قَتْلٍ أو أَسْرٍ قال:
فلَيْتَ لي بهمُ قومًا إذا رَكِبوا ** شَنُّوا الإِغارةَ فُرْسانًا ورُكْبانا

و(غار) لُغَيَّةٌ، وأغار وغارَ أيضًا: نَزَل الغَوْرَ وهو المُنْهَبَطُ من الأرض. واختلف الناسُ في موصوفاتِ هذه الصفاتِ أعني العاديات وما بعدها فقيل: الخيلُ، أي والخيلِ العادياتِ، فالمُورياتِ، فالمُغيراتِ. ونظيرُ العطفِ هنا كالعطفِ في قوله:
يا لَهْفَ زيَّابةَ لِلحارِث الـ ** ـصابحِ فالغانِمِ فالآئِبِ

وتقدَّم تقريرُه أولَ البقرة.
وقيل: التقديرُ: والإِبلِ العادياتِ مِنْ عرفةَ إلى مزدلفةَ، ومِنْ مزدلفةَ إلى مِنى، كما تقدَّم عن أمير المؤمنين. ويَدُلُّ له قول صفيَّةَ بنتِ عبد المطلب:
أمَا والعادياتِ غَداةَ جَمْعٍ ** بأَيْديها إذا سَطَع الغُبارُ

وقيل: {فالموريات} أي: الجماعةُ التي تَمْكُرُ في الحرب. تقول العرب: لأُوْرِيَنَّ لك، لأَمْكُرَنَّ بك.
{فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4)}
قوله: {فَأَثَرْنَ}: عَطَفَ الفعلَ على الاسمِ؛ لأنَّ الاسمَ في تأويل الفعلِ لوقوعِه صلةً لـ: أل.
قال الزمخشري: معطوفٌ على الفعلِ الذي وُضِعَ اسمُ الفاعلِ موضعَه. يعني في الأصل، إذ الأصلُ: واللاتي عَدَوْنَ فأَوْرَيْنَ فأغَرْنَ فَأَثَرْنَ.
قوله: {بِهِ}: في الهاء أوجهٌ..
أحدهما: أنها ضميرُ الصُّبح، أي: فَأَثَرْنَ في وقتِ الصُّبح غُبارًا. وهذا حَسَنٌّ؛ لأنه مذكورٌ بالصَّريح.
الثاني: أنه عائدٌ على المكانِ، وإن لم يَجْرِ له ذِكْرٌ؛ لأنَّ الإِثارةَ لابد لها من مكان، فالسِّياقُ والفعلُ يَدُلاَّن عليه. وفي عبارةِ الزمخشريِّ: وقيل: الضمير لمكان الغارة. هذا على تلك اللُّغَيَّةِ، وإلاَّ فالفصيحُ أَنْ يقول: الإِغارة الثالث: أنَّه ضميرُ العَدْوِ الذي دَلَّ عليه {والعادياتِ}.
وقرأ العامَّةُ بتخفيفِ الثاءِ، مِنْ أثار كذا: إذا نَشَره وفَرَّقه مع ارتفاعٍ.
وقرأ أبو حَيْوَةَ وابن أبي عبلة بتشديدها، وخَرَّجه الزمخشريُّ على وجهَيْن: الأولُ بمعنى فأَظْهَرْنَ به غبارًا؛ لأنَّ التأثيرَ فيه معنى الإِظهارِ.
والثاني: أنه قَلَبَ (ثَوَّرْنَ) إلى (وَثَّرْنَ) وقَلَبَ الواوَ همزةً. انتهى.
قلت: يعني أنَّ الأصلَ: ثَوَّرْنَ، مِنْ ثَوَّر يُثَوِّرُ بالتشديد عَدَّاه بالتضعيف كما يُعَدَّى بالهمزة في قولك: أثاره، ثم قَلَبَ الكلمةَ: بأنْ جَعَلَ العينَ وهي الواوُ موضعَ الفاء، وهي الثاءُ، فصارت وَثَّرْنَ، ووزنُها حينئذٍ عَفَّلْنَ، ثم قَلَبَ الواوَ همزةً، فصار (أَثَرْنَ) وهذا بعيدٌ جدًا. وعلى تقديرِ التسليمِ فَقَلْبُ الواوِ المفتوحةِ همزةً لا يَنْقاس إنما جاءت منه أُلَيْفاظٌ كأحد وأَناةٍ. والنَّقْعُ: الغبار وأُنْشِد:
يَخْرُجْنَ مِنْ مُسْتطارِ النَّقْعِ داميةً ** كأنَّ آذانَها أطرافُ أَقْلامِ

وقال ابن رَواحة:
عَدِمْتُ بُنَيَّتِي إنْ لَمْ تَرَوْها ** تُثير النَّقْعَ مِنْ كَنَفَيْ كَداءِ

وقال أبو عبيد: النَّقْعُ رَفْعُ الصوتِ. وأَنْشَد:
فمتى يَنْقَعْ صُراخٌ صادِقٌ ** يُحْلِبُوْها ذاتَ جَرْسٍ وزَجَلْ

قال الزمخشري: ويجوزُ أَنْ يُرادَ بالنَّقْع الصياحُ، من قوله عليه السلام: «ما لم يكن نَقْعٌ ولا لَقْلَقَةٌ» وقول لبيد:
فمتى يَنْقَعْ صُراخٌ صادِقٌ

أي: هَيَّجْنَ في المَغارِ عليهم صَباحًا. انتهى. فعلى هذا تكون الباءُ بمعنى (في) ويعودُ الضمير على المكانِ الذي فيه الإِغارةُ كما تقدَّمَ.
{فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)}
قوله: {فَوَسَطْنَ}: العامَّةُ على تخفيفِ السينِ، أي: تَوَسَّطْنَ. وفي الهاءِ في {به} أوجهٌ، أحدها: أنها للصبح، كما تقدَّم.
والثاني: أنها للنَّقْعِ، أي: وَسَطْنَ بالنَّقْعِ الجَمْعَ، أي: جَعَلْنَ الغبارَ وَسْطَ الجمع، فالباءُ للتعدية، وعلى الأولِ هي ظرفيةٌ.
الثالث: أنَّ الباءَ للحاليةِ، أي: فتوَسَّطْن مُلْتبساتٍ بالنقع، أي: بالغبار جمعًا من جموع الأعداء.
وقيل: الباءُ مزيدةٌ، نقله أبو البقاء و{جَمْعًا} على هذه الأوجهِ مفعولٌ به. الرابع: أنَّ المرادَ بـ: جَمْع المزدلفةُ وهي تُسَمَّى جَمْعًا. والمرادُ أنَّ الإِبلَ تتوسَّطُ جَمْعًا الذي هو المزدلفةُ، كما مرَّ عن أميرِ المؤمنين رضي الله عنه، فالمرادُ بالجَمْعِ مكانٌ لا جماعةُ الناسِ، كقول صفية:
462 والعادياتِ غَداةَ جَمْعٍ

وقول بشرِ بنِ أبي خازم:
فَوَسَطْنَ جَمْعَهُمُ وأَفْلَتَ حاجبٌ ** تحت العَجابةِ في الغُبارِ الأَقْتَمِ

و{جَمْعًا} على هذا منصوبٌ على الظرف، وعلى هذا فيكونُ الضميرُ في {به}: إمَّا للوقتِ، أي: في وقت الصبح، وإمَّا للنَّقْع، وتكونُ الباءُ للحال، أي: مُلْتبساتٍ بالنَّقْع. إلاَّ أنه يُشْكِلُ نَصْبُ الظرفِ المختصِّ إذ كان حَقُّه أَنْ يتعدى إليه بـ: (في) وقال أبو البقاء: إنَّ جَمْعًا حالٌ. وسبقه إليه مكي. وفيه بُعْدٌ؛ إذ المعنى: على أنَّ الخيلَ توسَّطَتْ جَمْعٌ الناسِ.
وقرأ علي وزيد بن علي وقتادة وابن أبي ليلى بتشديد السين، وهما لغتان بمعنى واحد أعني التثقيلَ والتخفيفَ.
وقال الزمخشري: التشديدُ للتعديةِ والباءُ مزيدةٌ للتأكيدِ كقوله: {وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25] وهي مبالَغَةٌ في {وَسَطْن} انتهى. وقوله: وهي مبالَغَةٌ. يناقِضُ قوله أولًا (للتعدية)؛ لأن التشديدَ للمبالغة لا يُكْسِبُ الفعلَ مفعولًا آخر تقول: (ذَبَحْتُ الغنم) مخففًا ثم تبالِغُ فتقول: (ذَبَّحْتها) مثقلًا، وهذا على رأيِه قد جَعَله متعديًا بنفسِه بدليلِ جَعْلِه الباءِ مزيدةً فلا يكون للمبالغة.
{إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)}
قوله: {إِنَّ الإنسان}: هذا هو المُقْسَم عليه و{لرَبَّه} متعلق بالخبرِ، وقُدِّمَ للفواصلِ. والكَنُوْدُ: الجَحُوْد.
وقيل: الكَفورُ النعمةِ وأُنْشِد:
كَنُوْدٌ لِنَعْماءِ الرجالِ ومَنْ يَكُنْ ** كَنُوْدًا لِنَعْماءِ الرجالِ يُبَعَّدِ

وعن ابن عباس: هو بلسانِ كِنْدَةَ وحَضْرَمَوْتَ العاصي، وبلسان ربيعةَ ومُضَرَ الكَفورُ، وبلسانِ كِنانةَ البخيل. وأنشد أبو زيد:
إنْ تَفْتْني فلم أَطِبْ عنك نَفْسًا ** غيرَ أنِّي أمنى بدَيْنٍ كَنُودِ

{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)}
قوله: {لِحُبِّ}: اللامُ متعلقةٌ بـ: {شديدٌ} وفيه وجهان:
أحدهما: أنها المعدِّيةُ. والمعنى: وإنَّه لقَويٌّ مُطيقٌ لِحُبِّ الخير يقال: هو شديدٌ لهذا الأمر، أي: مُطيقٌ له.
والثاني: أنها للعلةِ، أي: وإنَّه لأجلِ حبِّ المالِ لَبخيلٌ.
وقيل: اللامُ بمعنى (على). ولا حاجةَ إليه، وقد يُعَبَّرُ بالشديدِ والمتشدِّدِ عن البخيل قال:
أرى الموتَ يَعْتامُ الكرامَ ويَصْطَفي ** عَقيلةَ مالِ الفاحشِ المتشدِّدِ

وقال الفراء: أصلُ نَظْمِ الآية أَنْ يقال: وإنه لشديدُ الحُبِّ للخير، فلما قَدَّم (الحُبّ) قال: لشديد، وحَذَفَ مِنْ آخرِه ذِكْرَ (الحُبِّ)؛ لأنه قد جرى ذِكْرُه، ولرؤوسِ الآي كقوله: {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم: 18] والعُصُوف للريح لا لليوم، كأنه قال: في يومٍ عاصفِ الريحِ.
{أَفَلَا يعلم إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9)}
قوله: {إِذَا بُعْثِرَ}: في العاملِ فيها أوجهٌ أحدها: (بُعْثِرَ) نقله مكي عن المبرد وتقدَّم تحريرُ هذا قريبًا في السورةِ قبلَها.
والثاني: أنه ما دَلَّ عليه خبرُ (أن) أي: إذا بُعْثر جُوزوا. والثالث: أنه {يعلم}، وإليه ذهب الحوفيُّ وأبو البقاء. ورَدَّه مكيُّ قال: لأنَّ الإنسان لا يُرادُ منه العِلْمُ والاعتبارُ ذلك الوقتَ، وإنما يَعْتَبِرُ في الدنيا ويعلم. وقال الشيخ: وليس بمتَّضِحٍ لأنَّ المعنى: أفلا يعلم الآن.
وكان قد قال قبل ذلك: ومفعولُ {يعلم} محذوفٌ وهو العاملُ في الظرفِ، أي: أفلا يعلم مآلَه إذا بُعْثِرَ. انتهى. فجَعَلَها متعديةً في ظاهرِ قوله إلى واحد، وعلى هذا فقد يُقال: إنها عاملةٌ في {إذا} على سبيلِ أنَّ {إذا} مفعولٌ به لا ظرفٌ إذ التقديرُ: أفلا يَعْرِفُ وقتَ بَعْثَرَةِ القبورِ. يعني أَنْ يُقِرَّ بالبعثِ ووقتِه، و{إذا} قد تصر‍َّفَتْ وخَرَجَتْ عن الظرفيةِ، ولذلك شواهدُ تقدَّم ذِكْرُها في غضونِ هذا التصنيفِ. الرابع: أنَّ العاملَ فيها محذوفٌ، وهو مفعولٌ {يعلم} كما تقدَّم تقريرُه، أي: يعلم مآلَه إذا بُعْثِرَ. ولا يجوزُ أن يعملَ فيه {لَخبيرٌ} لأنَّ ما في حَيِّز {إنَّ} لا يتقدَّمُ عليها.
وقرأ العامَّةُ: {بُعْثِرَ} بالعين مبنيًا للمفعولِ. والموصولُ قائمٌ مقامَ الفاعلِ. وابن مسعودٍ بالحاء.
وقرأ الأسود بن يزيد ومحمد بن معدان {بُحِثَ} من البحث. ونصر بن عاصم {بَعْثَرَ} مبنيًا للفاعل وهواللَّهُ تعالى أو المَلَكُ. والعامَّةُ: {حُصِّل} مبنيًا للمفعولِ كالذي قبلَه. ويحيى بن يعمر ونصرُ بن عاصم وابن معدان {حَصَّلَ} مبنيًا للفاعلِ. ورُوِي عن ابن يعمرَ ونصرٍ أيضًا {حَصَلَ} خفيفةَ الصادِ مبنيًا للفاعل بمعنى: جَمَعَ ما في الصحفِ تَحَصُّلًا، والتحصيلُ: جَمْعُ الشيء، والحُصولُ اجتماعُه.
وقيل: التحصيلُ التمييزُ. ومنه قيل للمُنْخُل: مُحَصِّل. وحَصَل الشيءُ مخفَّفًا: ظَهَر واستبانَ، وعليه القراءة الأخيرةُ.
{إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)}
قوله: {إِنَّ رَبَّهُم}: العامَّةُ على كَسْرِ الهمزةِ لوجودِ اللامِ في خبرِها. والظاهرُ أنَّها معلقةٌ لـ: {يعلم} فهي في محلِّ نصب، ولكن لا يَعْمَلُ في {إذا} خبرُها لِما تقدَّم؛ بل يُقَدَّرُ له عاملٌ مِنْ معناه كما تقدَّم. ويدلُّ على أنها مُعلقةٌ للعِلْمِ لا مستأنفةٌ قراءة أبي السَّمَّال وغيرِه {أنَّ ربَّهم بهم يؤمئذٍ خبيرٌ} بالفتح وإساقطِ اللامِ، فإنَّها في هذه القراءة سادَّةٌ مَسَدَّ مفعولَيْها. ويُحْكَى عن الخبيثِ الروحِ الحَجَّاج أنه لما فَتَح همزةَ {أنَّ} استدرك على نفسِه فتعمَّد سقوطَ اللامِ. وهذا إنْ صَحَّ كُفْرٌ. ولا يُقال: إنها قراءة ثابتةٌ، كما نَقَلْتُها عن أبي السَّمَّال، فلا يكفرُ، لأنه لو قرأها كذلك ناقِلًا لها لم يُمْنَعْ منه، ولكنه أسقطَ اللامَ عَمْدًا إصلاحًا للِسانِه. وأجمعَ الأمةُ على أنَّ مَنْ زاد حرفًا في القرآن أو نَقَصَه عَمْدًا فهو كافِرٌ، وإنما قلتُ ذلك لأنِّي رأيتُ الشيخَ قال: وقرأ أبو السَّمَّال والحجَّاج. ولا يُحْفَظُ عن الحجَّاجِ إلاَّ هذا الأثرُ السَّوْءُ، والناسُ يَنْقُلونه عنه كذلك، وهو أقلُّ مِنْ أَنْ يُنْقَلَ عنه.
و{بهم} و{يومئذٍ} متعلقان بالخبرِ، واللامُ غيرُ مانعةٍ من ذلك، وقُدِّما لأَجْلِ الفاصلةِ. اهـ.